ads980-90 after header
الإشهار 1

جنازة الصحافة في زمن خوتي المغاربة

الإشهار 2

جنازة الصحافة في زمن خوتي المغاربة

العرائش أنفو

برعلا زكريا

يقتضي المنطق السليم والنزاهة الفكرية رسم خط فاصل وواضح بين صانعي المحتوى الذين يقتاتون على خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي وبين الصحفيين المهنيين المؤتمنين على رسالة الإخبار والتنوير، فالإعلام المهني لا يقوم على الصراخ والضجيج بل يستند إلى ضوابط صارمة من دقة في النقل وتحر دؤوب للمصادر واحترام تام لأخلاقيات المهنة مع الالتزام بالقانون والحقوق والواجبات، بينما يسبح المحتوى المبني فقط على الإثارة وهاجس جمع المشاهدات ومراكمة العائدات الإعلانية في فلك آخر يبتعد غالبا عن هذه القواعد ولا يمكن بأي حال اعتباره عملا صحفيا، كما أن معالجة القضايا العامة أو توجيه الاتهامات يفترض أن تتم داخل الأطر القانونية والمؤسسات المختصة وليس عبر نصب المشانق في الساحات الافتراضية وعقد محاكمات شعبية تصدر أحكاما جائرة بناء على الأهواء الشخصية، فالصحافة النبيلة وجدت لخدمة الحقيقة والمجتمع في إطار القانون لا لتكون سوطا يجلد الخصوم أو بوقا للتشهير.

عند إسقاط هذه المبادئ البديهية على واقعنا الحالي يتضح حجم الكارثة التي نعيشها، فقد تحول الفضاء الرقمي إلى ساحة مستباحة لمن نصبوا أنفسهم قضاة ومحققين يلوحون بتسريبات صوتية مبتورة ويوزعون صكوك الإدانة والبراءة، وحين تفشل مناوراتهم في لي ذراع المؤسسات يعودون سريعا للعب دور المرأة التي أفسدت زواجها بأفعالها وباتت تلقي اللوم على أم زوجها وأخواته وكيف سحروا لها ودمروا حياتها، وهذا العبث التواصلي تجلى بوضوح في إسهال الخرجات البكائية لمن يظن نفسه بطل التسريبات ومنقذ البشرية من الشر.

من جهة أخرى لا تتردد أغلب المقاولات الصحفية الصغرى والمتوسطة في الاشتغال بطرق مضرة بالمهنة كفتح المجال على مصراعيه للمتعاونين أو المراسلين الذين يفتقرون للتكوين بل لأبجديات المهنة، ويتضح ذلك جليا في نصوص المقالات المنشورة حيث أصبحت كلها تقريبا من إنتاج شات جي بي تي الذي بات الملاذ الأخير لملء الفراغ المهول في الكفاءة، فيمكن للقارئ اللبيب تمييز بصمة هذا الوافد التقني البليدة بسهولة تامة في كل ما ينشرونه من مواد تدعي المهنية وهي تذبحها من الوريد إلى الوريد، نصوص تفضح نفسها بتركيبتها الركيكة وبنيتها الميكانيكية الباردة حيث تتراكم الكلمات المنمقة دون رابط منطقي وتتكرر المفردات بشكل يبعث على الغثيان، كتابة آلية بئيسة تبدأ فقراتها بعبارات توكيد مدرسية وتنتهي بخلاصات وعظية سطحية وتافهة ناهيك عن حشو النص بعبارات الربط المصطنعة التي يحفظها الذكاء الاصطناعي عن ظهر قلب، لتتحول الصحافة من مهنة المتاعب والبحث المضني عن الحقيقة والتحقق من المعلومة ومقاطعة المصادر إلى مهنة الأزرار حيث يقوم التطبيق بالتفكير والصياغة نيابة عن الصحفي الكسول الذي استقال من وظيفة العقل وتخلى عن دوره في التوثيق والتدقيق.

هذا الانحدار المهني المخيف هو السبب الرئيس الذي هوى بالقطاع إلى الحضيض وليس طبيعة التنظيم الإداري أو الخلافات السياسية والنقابية الضيقة التي تستهلك الجهد والوقت، وتكمن المعضلة الحقيقية في موت وظيفة رئيس التحرير داخل غرف الأخبار ذلك الدينامو الذي كان يضبط الإيقاع ويقوم الاعوجاج ويسهر على احترام الخط التحريري وأخلاقيات المهنة. غياب هذه المصفاة الضرورية وتراجع دور التأطير والتكوين المستمر فتح الباب على مصراعيه أمام العبث والارتجال فصار النشر متاحا لكل من هب ودب، وزاد الطين بلة وجود سوق عشوائية للتكوين تتسابق فيها مؤسسات خاصة لبيع دبلومات وشواهد تنسب زورا لمجال الصحافة والإعلام دون أن تقدم لطلابها تكوينا حقيقيا يؤهلهم لولوج سوق الشغل، لتغيب مراقبة وزارة التعليم العالي عن هذه الدكاكين التي تخرج سنويا جيوشا من حاملي الألقاب الفارغة الذين يعتقدون واهمين أن الحصول على ورقة كرتونية يجعل منهم صحفيين قادرين على نقل الحقيقة.

تلتقي رداءة التكوين مع استسهال التكنولوجيا لتنتج لنا هذا المشهد البئيس حيث تعوض التقنية الجهد البشري الخلاق، فيعتمد هؤلاء الدخلاء على أدوات التوليد الآلي لصياغة مقالات خشبية تعج بالأخطاء المعرفية متخليين عن دورهم الجوهري في التحقق والتوثيق والبحث عن الأدلة الدامغة. النتيجة هي محتوى بارد يفتقر للمصداقية ويعرض وجهات النظر الأحادية دون أي توازن، لكن الكارثة العظمى تبقى هي التطبيع مع خطاب خوتي المغاربة الذي حول العمل الصحفي من سلطة رابعة تراقب وتنتقد برصانة إلى بكائية يومية وميوعة تواصلية تستجدي العواطف وتدغدغ الغرائز بلغة الشارع. لقد صار لزاما اليوم قبل الحديث عن أي هياكل أو مجالس أن نمتلك الشجاعة الكافية للقطع مع هذا الخطاب الشعبوي، فالأولوية القصوى تقتضي طرد أصحاب هذه اللغة من حرم المهنة لتحصينها وإعادتها للمكانة التي تستحقها بعيدا عن ابتذال اللايفات وصراعات الشخصنة التي لا تبني وعيا ولا تخدم وطنا.

ads after content
الإشهار 3
شاهد أيضا
الإشهار 4
تعليقات الزوار
جاري التحميل ...
الإشهار 5